سورة الذاريات - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الذاريات)


        


أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات تنبيهاً عليها وتشريفاً لها ودلالة على الاعتبار فيها حتى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله تعالى.
{والذاريات} الرياح بإجماع من المتأولين، يقال: ذرت الريح وأذرت بمعنى: وفي الرياح معتبر من شدتها حيناً، ولينها حيناً وكونها مرة رحمة ومرة عذاباً إلى غير ذلك.
و {ذرواً} نصب على المصدر. و: {الحاملات وقراً} قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي السحاب الموقرة بالماء. وقال ابن عباس وغيره هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم. وقال جماعة من العلماء هي أيضاً مع هذا جميع الحيوان الحامل، وفي جميع ذلك معتبر. و: {وقراً} مفعول صريح، و: {الجاريات يسراً} قال علي بن أبي طالب وغيره: هي السفن في البحر وقال آخرون: هي السحاب بالريح وقال آخرون: هي الجواري من الكواكب، واللفظ يقتضي جميع هذا. و{يسراً} نعت لمصدر محذوف وصفات المصادر المحذوفة تعود أحوالاً. و: {يسراً} معناه: بسهولة وقلة تكلف، و: {المقسمات أمراً} الملائكة والأمر هنا اسم الجنس، فكأنه قال: والجماعات التي تقسم أمور الملكوت من الأرزاق والآجال والخلق في الأرحام وأمر الرياح والجبال وغير ذلك، لأن كل هذا إنما هو بملائكة تخدمه، فالآية تتضمن جميع الملائكة لأنهم كلهم في أمور مختلفة، وأنث {المقسمات} من حيث أراد الجماعات.
وقال أبو طفيل عامر بن واثلة كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر فقال: لا تسألوني عن آية من كتاب الله أو سنة ماضية إلا قلت، فقام إليه ابن الكواء فسأله عن هذه، فقال: {الذاريات} الرياح.
و {الحاملات} السحاب، و{الجاريات} السفن، و{المقسمات} الملائكة. ثم قال له سل سؤال تعلم ولا تسأل سؤال تعنت وهذا القسم واقع على قوله: {إنما توعدون لصادق}، و{توعدون} يحتمل أن يكون من الإيعاد، ويحتمل أن يكون من الوعد، وأيها كان فالوصف له بالصدق صحيح و: {صادق} هنا موضوع بدل صدق، ووضع الاسم موضع المصدر. و: {الدين} الجزاء. وقال مجاهد الحساب، والأظهر في الآية أنها للكفار وأنها وعيد محض بيوم القيامة.
ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر فقال: {والسماء ذات الحبك} فظاهر لفظة {السماء} أنها لجميع السماوات، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: هي السماء السابعة. و: {الحُبُك} بضم الحاء والباء: الطرائق التي هي على نظام في الأجرام، فحبك الرمان والماء: الطرائق التي تصنع فيها الريح الهابة عليها، ومنه قول زهير:
مكلل بعميم النبت تنسجه *** ريح خريف لضاحي مائه حبك
وحبك الدرع: الطرائق المتصلة في موضع اتصال الحلق بعضها ببعض، وفي بعض أجنحة الطير حبك على نحو هذا، ويقال لتكسر الشعر حبك، وفي الحديث: «أن من ورائكم الكذاب المضل، وأن من ورائه حبكاً حبكاً».
يعني جعودة شعره فهو يكسره، ويظهر في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائق في موضع تداخل الخيوط هي حبك، ويقال نسج الثوب فأجاد حبكه، فهذه هي الحبك في اللغة. وقال منذر بن سعيد: إن في السماء في تألق جرمها هي هكذا لها حبك، وذلك لجودة خلقتها وإتقان صنعتها، ولذلك عبر ابن عباس في تفسير قوله {والسماء ذات الحبك} بأن قال: حبكها حسن خلقتها، وقال ابن جبير: {الحبك}: الزينة. وقال الحسن: حبكها كواكبها، وقال ابن زيد: {الحبك}: الشدة، وحبكت شدت، وقرأ {سبعاً شداداً} [النبأ: 12] وقال ابن جني: {الحبك} طرائق الغيم ونحو هذا، وواحد {الحبك}: حباك، ويقال للظفيرة التي يشد بها حظار القصب ونحوه، وهي مستطيلة تمنع في ترجيب الغرسات المصطفة حباك وقد يكون واحد {الحبك} حبيكة، وقال الراجز: [الوافر]
كأنما جللها الحواك، *** طنفسة في وشيها حباك
وقرأ جمهور الناس: {الحُبُك} بضم الحاء والباء. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو مالك الغفاري بضم الحاء وسكون الباء تخفيفاً، وهي لغة بني تميم كرسل في رسل، وهي قراءة أبي حيوة وأبي السمال. وقرأ الحسن أيضاً وأبو مالك الغفاري: {الحِبِك} بكسر الحاء والباء على أنها لغة كإبل وإطل.
وقرأ الحسن أيضاً فيما روي عنه: {الحِبْك} بكسر الحاء وسكون الباء كما قالوا على جهة التخفيف: إبل وإطل بسكون الباء والطاء. وقرأ ابن عباس: {الحَبَك} بفتح الحاء والباء. وقرأ الحسن أيضاً فيما روي عنه {الحِبُك} بكسر الحاء وضم الباء وهي لغة شاذة غير متوجهة، وكأنه أراد كسرهما ثم توهم {الحِبُك} قراءة الضم بعد أن كسر الحاء فضم الباء، وهذا على تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء. وقرأ عكرمة {الحُبَك} بضم الحاء وفتح الباء جمع حبكة، وهذه كلها لغات والمعنى ما ذكرناه. والفرس المحبوك الشديد الخلقة الذي له حبك في مواضع من منابت شعره، وذلك دليل على حسن بنيته.
وقوله تعالى: {إنكم لفي قول مختلف}، يحتمل أن يكون خطاباً لجميع الناس مؤمن وكافر، أي اختلفتم بأن قال فريق منكم: آمنا بمحمد وكتابه، وقال فريق آخر: كفرنا، وهذا قول قتادة. ويحتمل أن يكون خطاباً للكفرة فقط، أي: أنتم في جنس من الأقوال مختلف في نفسه، قوم منكم يقولون: ساحر، وقوم: كاهن، وقوم: شاعر، وقوم: مجنون إلى غير ذلك، وهذا قول ابن زيد والضمير في: {عنه} قال الحسن وقتادة: هو عائد على محمد أو كتابه وشرعه. و: {يؤفك} معناه: يصرف، فالمعنى: يصرف عن كتاب الله من صرف ممن غلبت شقاوته، وكان قتادة يقول: المأفوك منا اليوم عن كتاب الله كثيراً، ويحتمل أن يعود الضمير على القول، أي: يصرف بسببه من أراد الإسلام، بأن يقال له هو سحر، هو كهانة؛ وهذا حكاه الزهراوي.
ويحتمل أن يعود الضمير في {عنه} على القول، أي يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته، وهذا على أن يكون قوله: {إنكم لفي قول مختلف} للكفار فقط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وجه حسن لا يُخِلُّ به، إلا أن عُرْفَ الاستعمال في {أَفَكَ}، إنما هو في الصرف من خير إلى شر، وتأمل ذلك تجدْها أبداً في المصروفين المذمومين، وحكى أبو عمرو عن قتادة أنه قرأ {من أَفَكَ} بفتح الهمزة والفاء.
وقوله تعالى: {قتل الخراصون} دعاء عليهم، كما تقول: قاتلك الله وقتلك الله، وعقرى حلقى ونحوه، وقال بعض المفسرين معناه: لعن الخراصون، وهذا تفسير لا تعطيه اللفظة. والخراص: المخمن القائل بظنه فتحته الكاهن والمرتاب وغيره ممن لا يقين له، والإشارة إلى مكذبي محمد على كل جهة من طروقهم. والغمرة: ما يغشى الإنسان ويغطيه كغمرة الماء، والمعنى في غمرة من الجهالة. و: {ساهون} معناه عن أنهم {في غمرة} وعن غير ذلك من وجوه النظر.
وقوله تعالى: {يسألون أيان يوم الدين} معناه: يقولون متى يوم الدين؟ على معنى التكذيب، وجائز أن يقترن بذلك من بعضهم هزء وأن لا يقترن.
وقرأ السلمي والأعمش: {إيَان} بكسر الهمزة وفتح الياء المخففة.
وقوله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} قال الزجاج: نصبوا {يوم} على الظرف من مقدر تقديره: هو كائن {يوم هم على النار} ونحو هذا، وقال الخليل وسيبويه: نصبه على البناء لما أضيف إلى غير متمكن. قال بعض النحاة: وهو في موضع رفع على البدل من {يوم الدين}. و: {يفتنون} معناه: يحرقون ويعذبون في النار، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والجميع، ومنه قيل للحرة: فتين، كأن الشمس أحرقت حجارتها.
ومنه قول كعب بن مالك:
معاطي تهوى إليها الحقو *** ق يحسبها من وراءها الفتينا
وفتنت الذهب أحرقته، ولما كان لا يحرق إلا لمعنى الاختبار قيل لكل اختبار فتنة، واستعملوا: فتن، بمعنى اختبر، وعلى هنا موصلة إلى معنى في، وفي قوله تعالى: {ذوقوا فتنتكم} معناه: يقال لهم ذوقوا حرقكم وعذابكم، قاله قتادة وغيره، والذوق: هنا استعارة، وهذا إشارة إلى حرقهم واستعجالهم: هو قولهم: {أيان يوم الدين} وغير ذلك من الآيات التي تقتضي استعجالهم على جهة التكذيب منهم.
ولما ذكر تعالى حالة الكفرة وما يلقون من عذاب الله، عقب ذلك بذكر المتقين وما يلقون من النعيم ليبين الفرق ويتبع الناس طريق الهدى، والجنات والعيون معروف. والمتقي في الآية مطلق في اتقاء الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى: {آخذين} نصب على الحال. وقرأ ابن أبي عبلة: {آخذون} بواو. وقال ابن عباس المعنى: {آخذين} في دنياهم {ما آتاهم ربهم} من أوامره ونواهيه وفرائضه وشرعه، فالحال على هذا محكية وهي متقدمة في الزمان على كذبهم في جنات وعيون. وقال جماعة من المفسرين معنى قوله: {آخذين ما آتاهم ربهم} أي محصلين لنعم الله التي أعطاهم من جنته ورضوانه، وهذه حال متصلة في المعنى بكونهم في الجنات. وهذا التأويل أرجح عندي لاستقامة الكلام به. وقوله: {قبل ذلك} يريد في الدنيا محسنين بالطاعة والعمل الصالح.


معنى قوله عز وجل: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} أن نومهم كان قليلاً لاشتغالهم بالصلاة والعبادة، فالمراد من كل ليلة، والهجوع: النوم.
وقال الأحنف بن قيس: لست من أهل هذه الآية، وهذا إنصاف منه. وقيل لبعض التابعين مدح الله قوماً {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون}، ونحن قليل من الليل ما تقوم، فقال رحم الله عبداً رقد، إذا نعس، وأطاع ربه إذا استيقظ. وفسر أنس بن مالك هذه الآية بأنهم كانوا ينتفلون بين المغرب والعشاء، وقال الربيع بن خيثم، المعنى: كانوا يصيبون من الليل حظاً. وقال مطرف بن عبد الله، المعنى: قل ليلة أتت عليهم هجوعها كله، وقاله ابن أبي نجيح ومجاهد، فالمراد عند هؤلاء بقوله: {من الليل} أي من الليالي. وظاهر الآية عندي أنهم كانوا يقومون الأكثر من ليلهم، أي من كل ليلة وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً.
وأما إعراب الآية: فقال الضحاك في كتاب الطبري ما يقتضي أن المعنى {كانوا قليلاً} في عددهم وتم خبر كان، ثم ابتدأ {من الليل ما يهجعون} ف {ما}: نافية. و{قليلاً} وقف حسن.
وقال بعض النحاة: {ما} زائدة، و{قليلاً} مفعول مقدم ب {يهجعون}. وقال جمهور النحويين {ما} مصدرية و{قليلاً} خبر كان، والمعنى كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. والهجوع مرتفع ب قليل على أنه فاعل، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيره، وهو الظاهر عندي أن المراد كان هجوعهم من الليل قليلاً. وفسر ابن عمر والضحاك {يستغفرون} ب يصلون. وقال الحسن معناه: يدعون في طلب المغفرة، والأسحار مظنة الاستغفار. ويروى أن أبواب الجنة تفتح سحر كل يوم. وفي قصة يعقوب عليه السلام في قوله: {سوف أستغفر لكم ربي} [يوسف: 98] قال أخر الاستغفار لهم إلى السحر. قال ابن زيد في كتاب الطبري: السحر: السدس الآخر من الليل.
وقوله تعالى: {وفي أموالهم حق} الصحيح أنها محكمة، وأن هذا الحق هو على وجه الندب، لا على وجه الفرض، و: {معلوم} يراد به متعارف، وكذلك قيام الليل الذي مدح به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفريضة بفعل المندوبات، وقال منذر بن سعيد: هي الزكاة المفروضة وهذا ضعيف، لأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة. وقال قوم من المتأولين: كان هذا ثم نسخ بالزكاة، وهذا غير قوي وما شرع الله عز وجل بمكة قبل الهجرة شيئاً من أخذ الأموال.
واختلف الناس في {المحروم} اختلافاً، هو عندي تخليط من المتأخرين، إذ المعنى واحد، وإنما عبرعلماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالاً وحصرها مكي ثمانية.
و: {المحروم} هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق، قال الشعبي: أعياني أن أعلم ما {المحروم}؟ وقال ابن عباس: {المحروم}: المعارف الذي ليس له في الإسلام سهم مال، فهو ذو الحرفة المحدود. وقال أبو قلابة: جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا {المحروم}. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أجيحت ثمرته من المحرومين، والمعنى الجامع لهذه الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه، وإلا فالذي أجيحت ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع، وبعد هذا مقدر من الكلام تقديره: فكونوا مثلهم أيها الناس وعلى طريقتهم فإن النظر المؤدي إلى ذلك متوجه، ف {في الأرض آيات} لمن اعتبر وأيقن.
قال القاضي أبو محمد: وهذه إشارة إلى لطائف الحكمة وعجائب الخلقة التي في الأرضين والجبال والمعادن والعيون وغير ذلك. وقرأ قتادة: {آية} على الإفراد.
وقوله تعالى: {وفي أنفسكم} إحالة على النظر في شخص الإنسان فإنه أكثر المخلوقات التي لدينا عبرة لما جعل الله فيه مع كونه من تراب من لطائف الحواس ومن أمر النفس وجهاتها ونطقها، واتصال هذا الجزء منها بالعقل، ومن هيئة الأعضاء واستعدادها لتنفع أو تجمل أو تعين. قال ابن زيد: إنما القلب مضغة في جوف ابن آدم جعل الله فيه العقل، أفيدري أحد ما ذاك العقل؟ وما صفته؟ وكيف هو؟ وقال الرماني: النفس خاصة: الشيء التي لو بطل ما سواها مما ليست مضمنة به لم تبطل، وهذا تعمق لا أحمده. وقوله: {أفلا تبصرون} توقيف وتوبيخ.
وقوله تعالى: {وفي السماء رزقكم}. قال الضحاك وابن جبير: أراد المطر والثلج. وقال واصل الأحدب ومجاهد: أراد القضاء والقدر، أي الرزق عند الله يأتي به كيف يشاء، لا رب غيره. وقرأ ابن محيصن {وفي السماء رازقكم}.
و: {توعدون} يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكون من الوعيد، والكل في السماء. قال الضحاك المراد: من الجنة والنار. وقال مجاهد المراد: الخير والشر. وقال ابن سيرين المراد: الساعة.
ثم أقسم تعالى بنفسه على صحة هذا القول والخبر وشبهه في اليقين به بالنطق من الإنسان، وهو عنده في غاية الوضوح، ولا يمكن أن يقع فيه اللبس ما يقع في الرؤية والسمع، بل النطق أشد تخلصاً من هذه واختلف القراء في قوله: {مثل ما}، فقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر مثلُ بالرفع، ورويت عن الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عنهم.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأهل المدينة وجل الناس: {مثلَ} بالنصب، فوجه الأولى الرفع على النعت، وجاز نعت النكرة بهذا الذي قد أضيف إلى المعرفة من حرث كان لفظ مثل شائعاً عاماً لوجوه كثيرة، فهو لا تعرفه الإضافة إلى معرفة، لأنك إذا قلت: رأيت مثل زيد فلم تعرف شيئاً، لأن وجوه المماثلة كثيرة، فلما بقي الشياع جرى عليه حكم النكرة فنعتت به النكرة. و{ما} زائدة تعطي تأكيداً، وإضافة مثل هي إلى قوله: {إنكم}. ووجه قراءة النصب أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون مثل قد بني لما أضيف إلى غير متمكن وهو في موضع رفع على الصفة {لحق} ولحقه البناء، لأن المضاف إليه قد يكسب المضاف بعض صفته كالتأنيث في قوله: شرقت صدر القناة. ونحوه، وكالتعريف في غلام زيد إلى غير ذلك، ويجري مثلَ حينئذ مجرى {عذاب يومئذ} [المعارج: 11] على قراءة من فتح الميم، ومنه قول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الطويل]
على حين عاتبت المشيب على الصبا ***
ومنه قول الآخر: [البسيط]
لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت ***
ف غير فاعلة ولكنه فتحها. والوجه الثاني وهو قول المازني إن مثلَ بني لكونه مع {ما} شيئاً واحداً، وتجيء على هذا في مضمار ويحما وأينما، ومنه قول حميد بن ثور: [الطويل]
ألا هيما مما لقيت وهيما *** وويهاً لمن لم يدر ما هن ويحما
فلولا البناء وجب أن يكون منوناً، وكذلك قول الشاعر [حسان بن ثابت]: [الطويل]
فأكرم بنا أماً وأكرم بنا ابن ما ***
والوجه الثالث: أن تنصب مثل على الحال من قوله: {لحق} وهي حال من نكرة وفيه خلاف لكن جوز ذلك الجرمي، وأما غيره فيراه حالاً من الذكر المرفوع في قوله {لحق} لأن التقدير {لحق} هو، وفي هذا نظر. والنطق في هذه الآية: الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني. وروي أن بعض الأعراب الفصحاء سمع هذه الآية فقال: من أحوج الكريم إلى أن يحلف والحكاية وقعت في كتاب الثعلبي وسبل الخيرات متممة عن الأصمعي، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله قوماً أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه» وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو فر أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» وأحاديث الرزق والأشعار فيه كثيرة.
وقوله: {هل أتاك} تقرير لتجتمع نفس المخاطب، وهذا كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب فتقرره هل سمع منك أم لا؟ فكأنه تقتضي منه أن يقول لا ويستطعمك الحديث. و: {ضيف} اسم جنس يقع للجميع والواحد. وروي أن أضياف إبراهيم هؤلاء: جبريل ومكائيل وإسرافيل وأتباع لهم من الملائكة.
وجعلهم تعالى مكرمين إما لأنهم عنده كذلك، وهذا قول الحسن. وإما من حيث أكرمهم إبراهيم وخدمهم هو وسارة. وذبح لهم العجل. وقيل من حيث رفع مجالسهم و: {سلاماً} منصوب على المصدر كأنهم قالوا: تسلم سلاماً، أو سلمت سلاماً، ويتجه فيه أن يعمل فيه {قالوا} على أن نجعل {سلاماً} بمنزلة قولاً. ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا تحية وقولاً معناه: {سلاماً} وهذا قول مجاهد.
وقوله: {سلام} مرتفع على خبر ابتداء. أي أمر {سلام}. أو واجب لكم {سلام}، أو على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: سلام عليكم وإبراهيم عليه السلام قد حيا بأحسن لأن قولهم دعاء وقوله واجب قد تحصل لهم.
وقرأ ابن وثاب والنخعي وحمزة والكسائي وطلحة وابن جبير قال: {سِلْم} بكسر السين وسكون اللام. والمعنى نحن سلم وأنتم سلم.
وقوله: {قوم منكرون} معناه: لا نميزهم ولا عهد لنا بهم. وهذا أيضاً على تقدير: أنتم {قوم منكرون} وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في تلك الأرض وفي ذلك الزمن و: راغ معناه مضى إثر حديثه تشبيه بالروغان المعروف، لأن الرائغ يوهم أنه لم يزل. والعجل: هو الذي حنذه، والقصة قد مضت مستوعبة في غير هذه السورة، وروي عن قتادة أن أكثر مال إبراهيم كان البقر وكان مضيافاً. وحسبك أنه أوقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها.


المعنى {فقربه إليهم} فأمسكوا عنه فقال: {ألا تأكلون} فيروى في الحديث أنهم قالوا: لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه. فقال إبراهيم وأنا لا أبيحه لكم إلا بثمن. قالوا: وما هو؟ قال: أن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل. فقال بعضهم لبعض: بحق اتخذه الله خليلاً. فلما استمروا على ترك الأكل {أوجس منهم خيفة}. والوجيس تحسيس النفس وخواطرها في الحذر. وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه والطعام حرمة وذمام. والامتناع منه وحشة. فخشي إبراهيم عليه السلام أن امتناعهم من أكل طعامه إنما هو لشر يريدونه، فقالوا له: {لا تخف} وعرفوه أنهم ملائكة، {وبشروه} وبشروا سارة معه {بغلام عليم}. أي عالم في حال تكليفه وتحصيله، أي سيكون عليماً و: {عليم} بناء مبالغة. وجمهور الناس على أن الغلام هنا إسحاق ابن سارة الذي ذكرت البشارة به في غير موضع. وقال مجاهد، هذا الغلام هو إسماعيل. والأول أرجح، وهذا وهم. ويروى أنه إنما عرف كونهم ملائكة استدلالاً من بشارتهم إياه بغيب.
وقوله تعالى: {فأقبلت امرأته} يحتمل أن يكون قربت إليهم من ناحية من نواحي المنزل، ويحتمل أن يكون هذا الإقبال كما تقول: أقبل فلان يشتمني، أو يفعل كذا إذا جد في ذلك وتلبس به، والصرة: الصيحة، كذا فسره ابن عباس ومجاهد وسفيان والضحاك، والمصطر الدي يصيح وقال قتادة معناه: في رقة. وقال الطبري قال بعضهم أوه بصياح وتعجب. قال النحاس: وقيل: {في صرة} في جماعة نسوة يتبادرن نظراً إلى الملائكة.
وقوله: {فصكت وجهها}، معناه: ضربت وجهها، قال ابن عباس: لطمت، وهذا مما يفعله الذي يرد عليه أمر يستهوله. وقال سفيان والسدي ومجاهد معناه: ضربت بكفها جبهتها وهذا مستعمل في الناس حتى الآن. وقولها: {عجوز عقيم}، إما أن يكون تقديره: أنا {عجوز عقيم} فكيف ألد؟ وإما أن يكون التقدير: {عجوز عقيم} تكون منها ولادة، وقدره الطبري: أتلد {عجوز عقيم}. ويروى أنها كانت لم تلد قط. والعقيم من النساء التي لا تلد، ومن الرياح التي لا تلقح شجراً، فهي لا بركة فيها، وقولهم: {كذلك قال ربك} أي كقولنا الذي أخبرناك قال ربك أن يكون. و: {الحكيم} ذو الحكمة. و: {العليم} معناه بالمصالح وغير ذلك من العلومات ثم قال إبراهيم عليه السلام للملائكة: {فما خطبكم} والخطب: الأمر المهم، وقل ما يعبر به إلا عن الشدائد والمكاره حتى قالوا: خطوب الزمان ونحو هذا، فكأنه يقول لهم: ما هذه الطامة التي جئتم لها؟ فأخبروه حينئذ أنهم أرسلوا إلى سدوم قرية لوط بإهلاك أهلها الكفرة العاصين المجرمين. والمجرم: فاعل الجرائم، وهي صعاب المعاصي: كفر ونحوه واحدتها جريمة.
وقولهم: {لنرسل عليهم} أي لنهلكهم بهذه الحجارة. ومتى اتصلت أرسل ب على: فهي بمعنى المبالغة في المباشرة والعذاب. ومتى اتصلت ب إلى، فهي أخف. وانظر ذلك تجده مطرداً.
وقوله تعالى: {حجارة من طين} بيان يخرج عن معتاد حجارة البرد التي هي من ماء. ويروى أنه طين طبخ في نار جهنم حتى صار حجارة كالآجر. و: {مسومة} نعت ل {حجارة}، وقيل معناه متروكة وسومها من الإهلاك والأنصباب. وقيل معناه: معلمة بعلامتها من السيما والسومى وهي العلامة، أي إنها ليست من حجارة الدنيا، وقال الزهراوي والرماني، وقيل معناه: على حجر اسم المضروب به. وقال الرماني وقيل كان عليها أمثال الخواتم. وقال ابن عباس: تسويمها إن كان في الحجارة السود نقط بيض وفي البيض سود. ويحتمل أن يكون المعنى: أنها بجملتها معلومة عند ربك لهذا المعنى معلمة له. لا أن كل واحد منها له علامة خاصة به. والمسرف: الذي يتعدى الطور، فإذا جاء مطابقاً فهو لأبعد الغايات الكفر فما دونه.
ثم أخبر تعالى أنه أخرج بأمره من كان في قرية لوط {من المؤمنين} منجياً لهم. وأعاد الضمير على القرية. ولم يصرح لها قبل ذلك بذكر لشهرة أمرها. ولأن القوم المجرمين معلوم أنهم في قرية ولا بد. قال المفسرون: ولا فرق بين تقدم ذكر المؤمنين وتأخره، وإنما هما وصفان ذكرهم أولاً بأحدهما ثم آخر بالثاني. قال الرماني: الآية دالة على أن الإيمان هو الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر إليّ أن في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان، وذلك أنه ذكره مع الإخراج من القرية، كأنه يقول: نفذ أمرنا بإخراج كل مؤمن، ولا يشترط فيه أن يكون عاملاً بالطاعات. بل التصديق بالله فقط.
ثم لما ذكر حال الموحدين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها، وهي الكاملة التصديق والأعمال، والبيت من المسلمين: هو بيت لوط، وكان هو وابنتاه، وقيل وبنته. وفي كتاب الثعلبي: وقيل لوط وأهل بيته ثلاثة عشر، وهلكت امرأته فيمن هلك، وهذه القصة بجملتها ذكرت على جهة المثال لقريش. أي أنهم إذا كفروا وأصابهم مثل ما أصاب هؤلاء المذكورين.

1 | 2